(متابعة تحليلية لصمت مصر أمام الاعتداءات الجنسية في الأمم المتحدة)
تبدأ السنة المالية للأمم المتحدة من جمعية عامة ومجلس أمن وكذلك مؤسساتها الأربعة عشرة المتعاونة مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة الصحة العالمية في يونيو/يوليو من كل عام. ومنذ نشأة هيئة الأمم المتحدة في ١٩٤٥، تُعقَد في الفترة بين مارس-مايو كل الاجتماعات لتقييم أداء السنة المنقضية وتحديد احتياجات العام الجديد والتصويت على قرارات حجم التمويل وشروط الأداء التي تضمن صرف هذا التمويل (أو تجميد التمويل في حال مخالفة بنود العقود أو الأداء أيما اتُفِق).
في ظل هذه الحقائق العلنية وغير الاستثنائية، تقوم كل دولة، سواء كانت مانحة أو مستقبِلة للمنح، بتقديم رؤية لاحتياجاتها ومصالحها في العام الجديد ومناقشة شروط الأداء والمحاسبة، وذلك في إطار أهداف سياساتها قصيرة/طويلة المدى (٥ أو ١٠ أو ٢٠ أو ٥٠ سنة)، والتي تقرها الحكومة المدنية بالتوافق ديمقراطياً في الداخل المحلي على أهداف تنمية الوطن، مع صيانة شروط السيادة الوطنية للبلاد في مواجهة التدخلات الخارجية والتي تنص على أن مسؤولين وموظفين أية حكومة يُساءَلون ويُحاسَبون فقط أمام شعوبهم في الداخل وليس أمام أية أطراف خارجية غير منشِئة لدستور البلاد.
وبهذه الطريقة، بُنيَت الأمم المتحدة على فهم مبكر لعلوم الاستراتيجيات واللعبة game theory الذي هيّأ ربط مصالح الدولة المانحة (سواء كانت مصالح خبيثة أو طيبة) بتنمية وعي وصحة وثقافة الشعوب المستقبِلة للمنح. وذلك حتى تستطيع تلك الشعوب أن تحكم نفسها بحرية وديمقراطية، ليس لأسباب أخلاقية أو حقوق إنسان رومانسية، ولكن لأسباب شريرة وأنانية بحتة، وهي أن تكتسب الشعوب النامية الوعي الكافي لمحاسبة أو معاقبة أخطاء حكوماتها في استخدام الأموال الممنوحة لها من الخارج، لأن هذه هي الطريقة الوحيدة الشرعية في القانون الدولي التي تُمَكِّن الدولة المانحة أن تحاسِب/تعاقِب الحكومة المستقبِلة لأموالها، وبالتالي تحاسَب/تعاقَب الأولى أمام شعوبها، وتنجح في الاستمرار في سدة الحكم إن أحسنت الأداء.
هذه الديناميكية في ضمان نجاح الذات عن طريق تنمية الآخر بدلا من إخضاعه وإفشاله هي صمام الأمان الذي أبدعه الفكر الإنساني لتجنب الحروب، وهي العلامة المميِّزة لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية/عالم ما بعد الاستعمار.
أما عن دوافع الحكومة المستقبِلة للتمويل في تحرير وتنمية شعوبها وتفعيل الإرادة الشعبية وتقرير المصير، فهو شأن داخلي خارج تفويض الأمم المتحدة ويرجع لشروط الحكم في الدستور الوطني كما ارتضاه الشعب لنفسه. فإذا كانت الحكومة خاضعة لما يكفي من القوانين التي تهددها -فعليا وليس صوريا- بأنها سوف تفقد الحكم إن أساءت التصرف، فإن دوافعها إذن تتحد مع دوافع الأطراف الخارجية في تحرير الشعب والارتقاء به حتى يصير منصِفا موضوعيا في تقييمها ومن ثَمَّ يسمح لها بالبقاء في الحكم ويكافئها بانتخاب أحزابها.
أما إذا كانت الحكومة مطْمَئنة لدستور يبقيها في سدة الحكم بشكل سرمدي، صار من مصلحتها أن يكون الشعب الذي تحكمه مغيباً، لا يقرأ ولا يكتب ولا يفهم، وحبذا أن يكون كله تحت خط الفقر وليس نصفه فقط. فبهذه الطريقة يضرب مسؤلو الحكومة عصفورين بحجر بتحصين أنفسهم من المحاسبة من أطراف الداخل والخارج، فـ “يستهبلوا” على القانون الدولي ويتكسبون منه بامتيازات دون الوفاء بالالتزامات المقابلة لهذه الامتيازات، وفي النهاية يضمنون تزايد الأموال المتدفقة مستغلين قلق الدول المانحة المتزايد من انهيار الأمن العالمي، وتصبح عندئذ الأموال الممنوحة لهم “عِيديّة” سنوية يتصرفون فيها بكامل حريتهم كما يشاؤون، لا طبقاً لمصلحة الشعب ولا طبقاً حتى لمصلحة الأطراف الخارجية.
طبعاً الدول المانحة تعلم ذلك، وحسب خطورة الملف الذي تتفاوض فيه، أحيانا ما تغض الطرف عن سرقة بعض الأموال الممنوحة دون محاسبة أو عقاب، كثمن لضمان وصول المتبقي منها لأغراضه، وبالتالي تحقيق الحد الأدنى الممكن من مصالحها. وفي أحيان أخرى، في الملفات الحساسة جدا (التي ترتبط بالأمن العالمي بطبيعة الحال)، والذي لا يحتمل التنازلات، تقوم الدول المانحة بتهديد الدول المموَّلة أنها سوف تقطع التمويل إذا لم تلتزم الثانية بشروط المحاسبة التي ارتضتها الأخيرة مسبقاً كمبادىء عادلة للتحكيم. وتفعل هذا عن طريق رفع الملف من الجمعية العامة للأمم المتحدة لمجلس الأمن، وذلك لأن شروط المحاسبة والحصول على التمويل في الجمعية العامة اختيارية، ولكن في مجلس الأمن شروط الحصول على التمويل إلزامية. وهذه هي اللحظة التي تصرخ فيها الدول سيئة النية/السمعة أمام شعوبها بأن الدول المانحة تريد أن تقطع التمويل عنا لإضعافنا وكسر إرادتنا ومنعنا من تحقيق سياساتنا الخارجية وأغراضنا الدبلوماسية، وأن الدول المانحة تحيك المؤامرات ضد شعوبنا حتى لا ننهض أبداً.
لاحظ أن في جميع الأحوال، ليس من مصلحة الدول المانحة أبدا أبدا أن تخرق القانون الدولي، ليس لأنها نزيهة وطيبة، ولكن لأن خرق القانون الدولي هو أول الخيط لإسقاط شرعية الأمم المتحدة والسقوط في بئر الحروب العالمية مرة أخرى، والرجوع لتحقيق المصالح عن طريق شرعية القوة الحربية لا التعاون السلمي.
وهذا هو سبب أهمية جلسة مجلس الأمن لمناقشة الاعتداءات الجنسية لقوات حفظ السلام: ليس بسبب موضوع الاعتداءت الجنسية نفسه كمبدأ أخلاقي لا يختلف عليه أحد، ولكن لأنه عندما تم ترك معاقبة أخطاء ضباط القوات المسلحة من الدول المشاركة بالقوات (مثل مصر) أمام شعوبهم للتنفيذ الاختياري في الجمعية العامة للأمم المتحدة، استهترت تلك الدول بمعاقبة المذنبين حتى تفاقمت المشكلة وأصبحت شرعية قوات حفظ السلام الدولية نفسها على المحك. وإذا انهارت شرعية الخوذات الزرقاء، وأصبحت مثلها مثل أي ميليشيا مهزأة غير خاضعة للقانون المدني والمحاسبة المدنية، انهارت معها شرعية الأمم المتحدة كلها، ومن هنا تحوَّل الملف إلى مسألة أمن دولي من اختصاص مجلس الأمن، ووَجَب إجبار الدول الأعضاء على الالتزام به لأنهم فشلوا في الالتزام الاختياري. فالمسألة إذن أكبر من مصر ومن الولايات المتحدة نفسها، إذا انهارت الأمم المتحدة سوف ينهار العالم كله كما نعرفه اليوم. وكانت كلمة السر التي أدت إلى هذا التدهور وبالتالي إجبار مصر على القرار هي الاستهتار بالخضوع للمحاسبة داخلياً أمام الشعب وليس أمام الأطراف الخارجية.
————
أنا كمواطنة مصرية، أثق أن المؤسسة العسكرية والحكومة المصرية تعملان من أجل مصلحة مصر وتنمية الشعب المصري وليس من أجل الإبقاء عليه مجهلا فقيرا مريضا. ومن هنا ساقني الفضول لتحليل سياسة مصر الخارجية وأغراضها الدبلوماسية التي تتفاوض من أجل تمويلها وتنفيذها كل عام في الأمم المتحدة، في ضوء أهدافها المحلية للتنمية، التي أتوقع أن تتضمن الإصلاح الديمقراطي/التشريعي على سبيل المثال لا الحصر.
ولهذا ارتبكت بشدة من موقف مصر في الامتناع عن التصويت لمكافحة الاعتداءات الجنسية. الموقف خطير، ليس لأن معناه أن مصر تقبل بالاعتداءات الجنسية على يد ضباط مصريين في قوات حفظ السلام الدولي دون عقاب. ولكنه خطير لأن الحكومة لو كانت صوتت بالموافقة على خلق الآلية التي تسمح للقانون الجنائي المدني المصري بمعاقبة ضباط القوات المسلحة (*) على اعتداءات جنسية أثناء مشاركتهم في قوات حفظ السلام، كان سيتم استخدام هذه الآلية كسابقة شرعية تمكِّن الشعب المصري أخيرا من محاسبة ومعاقبة المخطئين في القوات المسلحة على ملفات كثيرة أخرى، مثل دهس الدبابات للمتظاهرين السلميين في ماسبيرو مثلاً، أو معاقبة كشوفات العذرية أيضا التي حكم فيها القضاء الإداري بثبوت الجرم، ولكن لم يمكن معاقبته لعدم وجود آلية قانونية تسمح بذلك، فكان حكم المحكمة الإدارية “آه حصل. معلش معلش خلاص مش هيعملوا كدا تاني”، وأصبح الانتصار كل الانتصار لضحايا هذه الكشوف المهينة هو مجرد إثبات حدوث الواقعة بعد إنكارها بطريقة “مافيش خرطوش”.
كان تصويت مصر بالموافقة إذن سوف يضع نهاية لهذا الثقب الأسود في العلاقة بين القوات المسلحة والشعب المصري.
(*) ترك نص قرار مجلس الأمن حرية صنع آلية المحاسبة داخليا للدول الأعضاء، ولكن الآلية كانت ستنشأ تحت القانون الجنائي المدني وليس العسكري، لأن أصل القانون هو تمكين المدنيين من تقديم الشكاوى ضد المخطئين من القوات المسلحة، وهذا لا يتم تحت مظلة القانون العسكري. وطبعا ليس من المعقول أن تستطيع طفلة كونغولية مقاضاة ضابط مصري إذا اعتدى عليها، ولا تستطيع طفلة مصرية مقاضاته، فهذا القانون كان سيقيم العدالة الناجزة للضحايا المصريين والأجانب على حد سواء. وإذا تم خلق هذه الآلية تحت القانون الجنائي المدني، أصبح ممكن مراقبة تنفيذه تحت مظلة المجتمع المدني.
فما الذي منع مصر من التصويت بالموافقة والترحيب بمثل هكذا إصلاح تشريعي؟ ما الذي يقلق مصر من شروط التمويل أو حتى تجميده إن كانت تنتوي فعلا معاقبة الضباط المخطئين في ملف حساس مثل قوات حفظ السلام، وخاصة أن هذا القرار كقانون دولي يتماشى في انسجام تام مع النية المخلصة من جانبي المؤسسة العسكرية والحكومة المصرية وسياساتهم الهادفة لتحقيق تنمية حقيقية للشعب المصري، والمحتاجة بالضرورة لإصلاح ديمقراطي/تشريعي وشفافية؟
لم أجد تفسيراً لهذه المفارقة، ولكني وجدت أن هذه المفارقة نفسها هي الخط الوحيد الثابت للدبلوماسية المصرية على مر الزمن: فبالنظر لموقف مصر المستمر في الأمم المتحدة بداية من العام المالي ١٩٥٣-١٩٥٤ على وجه التحديد، نرى أن “سياسة” مصر الخارجية التي تتفاوض من أجلها كل عام ما هي إلا هدف تأمين سيولة نقدية من العملة الصعبة للمؤسسة العسكرية سنة بسنة دون أية تنسيق مع أهداف تنموية أو ديمقراطية أو “تيمة” دبلوماسية تضمن وصول الشعب إلى النضج الكافي لمحاسبتها على المدى الطويل.
خذ مثلاً تيمة “العروبة”، العروبة لا تعبر عن القيم التي أؤمن بها، ولكني اخترتها لأني صراحةً على مدار ٦٥ عاماً لم أجد أية نكهة أو رؤية آخرى واضحة في السياسة الخارجية المصرية: نظرياً، تقوم القومية العربية على فكرة ترسيخ وتقديم أولوية العلاقات الاقتصادية والاجتماعية بين دول الوطن العربي بما يسمح للفرد العربي أن يتبادل مع نظيره العلوم والتجارة والفن والثقافة، فننهض جميعا كعرب في كيان منسجم شبيه بالاتحاد الأوروبي. ومن البديهي في هذا الكيان المنسجم ألا تشارك أية دولة عربية في الاعتداء على دولة أخرى. وفي ضوء هذا الافتراض لا نجد تفسيرا لتصويت مصر لصالح قرار مجلس الأمن بالمشاركة في حرب عاصفة الصحراء ضد العراق في ١٩٩٠. فالحرب كانت ستتم بتصويت مصر (وجامعة الدول العربية) أو عدمه، طبقا لمقولة مبارك الشهيرة خلال مشادته مع القذافي في جامعة الدول العربية: “ما تصوّت بقى! ما كدا كدا القرار هيعديّ!”، وكان بالأحرى، بما أن رغبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن متحققة رغما عن أنف مصر (تماماً مثل قرار مكافحة الاعتداءات الجنسية لقوات حفظ السلام)، أن تمتنع مصر عن التصويت أو تصوت بالرفض كموقف احتجاجي تقول فيه للولايات المتحدة والأمم المتحدة إنها لن تلعب “دور الكومبارس الصامت” لصالح المصالح الأمريكية. ولكن صوتت مصر ضد مبادىء العروبة، التي تبنتها هي كسياسة خارجية تسمو بالشعوب العربية.
حقيقة الأمر أن منطق التصويت كان بهدف الحصول على التمويل (لأن تصويت مصر بالإيجاب اشترى لنا إسقاط الديون الأجنبية عن مصر). كان التصويت الإيجابي إذاً مجرد إجراء صوري لتسجيل إرادة الشعوب العربية، وهو المعيار التي تتطلبه الأمم المتحدة كإثبات حالة أن أي من تحركاتها لم تخرق السيادة الوطنية لأي من الأعضاء وكانت بموافقتهم وإرادتهم وبكامل قواهم العقلية. وعلى نفس النهج، لم يفكر عبد الفتاح السيسي كثيرا في العروبة عند مشاركته بقوات مصرية في العملية العسكرية “عاصفة الحزم” في اليمن، وذلك للحصول على “الرز” من السعودية.
وللتوكيد، أنا لا أسرد هذه المواقف على أنها مشينة، ففي السياسة بعيدا عن الأخلاق، ليس هناك ما يعيب تقديم خدمات عسكرية مقابل مكاسب اقتصادية. ولكن المشكلة تظهر عندما تسعى الدبلوماسية المصرية لتأمين مكاسب نقدية بالتحايل على قوانين الأمم المتحدة (والتي هي أيضاً متحدة مع مبادىء وأهداف القانون المحلي)، لأنها في النهاية دائما تخسر أمام القانون، ولا تنتصر إلا في استكراد الشعب المصري.
فالسيادة الوطنية، كما تفهمها الدبلوماسية المصرية وتسعى لها دائماً في بنود التفاوض، تأتي في شكل تحصين المؤسسة العسكرية من المساءلة أو المحاسبة الداخلية قبل الأجنبية، مما يتطلب دائماً التفاف/فهلوة/استعباط في تفسير القوانين الدولية التي ترتكز على صمام أمان المحاسبة الداخلية. ودائما ما تحصل مصر على مساندة الظهير الشعبي داخليا على هكذا مواقف بالشكوى من مؤامرات خارجية من الخصوم الذين يريدون ليّ ذراع مصر لقبول شروط لا ترتضيها. وتتفاخر مصر دائماً بأنها قامت بـ “ضربة معلّم” في المفاوضات واستطاعت كشف المؤامرة ووقفت وقفة حاسمة أمام الأعداء، ورفضت القيام بدور الكومبارس الصامت لتحقيق نوايا الغرب الخبيثة.
تحْضُرنا هنا سابقة لالتفاف الحكومة المصرية على القانون الدولي تحججت فيها أن المصالح الدولية ضد المصلحة الوطنية، وهي سابقة تأميم قناة السويس. كانت الأسباب المعلنة أمام الشعب المصري أن عقود ملكية وتشغيل القناة الملاحية مجحفة للطرف المصري وأن قناة السويس مصرية يجب أن تخضع للسيادة المصرية، وأن الحكومات المصرية المَلَكية (قبل “ثورة” الضباط الأحرار) كانت خائنة للمصلحة المصرية وأبرمت العقود لصالح شركة قناة السويس العالمية لملاكها الفرنسيين والبريطانيين، وعليه فمصر إذن في حل من الالتزام به أو الالتزام بالقانون الدولي.
السبب الحقيقي كان الرغبة في الانتقام من “الثلاثة الكبار” في مجلس الأمن (فرنسا وانجلترا وأمريكا) لأنهم قاموا بتجميد تمويل السد العالي بعد انقلاب ١٩٥٢ لأسباب نشرحها في مقال آخر، ولكن هنا سوف ننحاز لصالح وجهة النظر المصرية ونحللها باستخدام الأسباب المعلنة.
قبل التأميم، توسل السيد محمد الغتيت والسيد فتحي رضوان لجمال عبد الناصر لعدم القيام بالتأميم عسكرياً[1] لأنه تحرك خارق للقانون الدولي وستدفع مصر ثمنه عقوبات مالية وإدارية لا نهاية لها (وهو ما حدث بالفعل)، وحاولوا إقناعه أننا إذا أردنا إبطال العقود المجحفة، علينا بسلك الطرق القانونية المدنية عن طريق التحكيم الدولي، وأن موقفنا جيد جدا وسوف ننجح في إبطال هذه العقود، بل وسنحصل أيضا على تعويضات من فرنسا وبريطانيا. لم يستمع ناصر للرأي القانوني المدني، وقام بانتزاع القناة عسكريا بمخالفة للقوانين والأعراف الدولية. لم تقبل فرنسا وإنجلترا بلَيّ الذراع وقامتا مع إسرائيل بالعدوان الثلاثي على مصر لاسترداد القناة طبقاً للعقد المبرم ولإيصال رسالة أن سياسة الأمر الواقع ووضع اليد لا تخيفهم. ورغم أن تصرف فرنسا وانجلترا كان صحيحا من وجهة نظر العقد، إلا أنه خارق أيضا للقانون الدولي لأنهم لم يحصلوا على إذن مجلس الأمن في “القصاص” واسترداد “حقوقهم” (من وجهة نظرهم).
في هذه اللحظة، على غير توقعاتك عزيزي القارىء، وقفت الولايات المتحدة مع مصر ضد فرنسا وإنجلترا وأكرهتهم على الانسحاب من قناة السويس، عن طريق سحب الغطاء النقدي الأجنبي منهم حتى يتعسروا ماديا ولا يتمكنون من الحصول على أية قروض لتمويل الحرب (راجع العملية الأمريكية Run on the Pound 1957).
ولم يكن موقف أمريكا أيضا في مساندة مصر مبنيا على الأخلاق، كل ما في الأمر أنها وجدت في مصر “زبون لُقطة” لانتزاع سلطتها الجديدة كقائد للعالم من فرنسا وبريطانيا. بينما الأخيرتان إمبراطوريتان يأفل نجمهما وتحاولان الحفاظ على القسط الأخير من إرثهم الاستعماري قدر الإمكان، ومنه كان حيازة وإدارة قناة السويس.
الآن وقد اكتملت عندك رؤية مصالح ودوافع كل طرف، التي هي منها مصالح ونوايا خبيثة أو طيبة حسب موقعك من الانحياز لهم، أعرض لك عزيزي القارىء فقرة من الاقتباسات المضحكة المبكية من سجل جلسة مجلس الأمن ٧٧٩ لسنة ١٩٥٧ بكود أرشيف S/PV.779 والتي دارت فيا مناقشة محتدة وصريحة عن تأميم قناة السويس، والتي يحاول فيها الأطراف جميعاً حل المشكلة دون خرق قواعد القانون الدولي:
رئيس وزراء فرنسا: “إحنا بس عايزين نوصل لخلاصة المناقشة، هي الأمم المتحدة دي هتتعامل معانا بقواعد خيار وفاقوس؟ قواعد للدول اللي بتحترم القرارات والقوانين، وقواعد تانية للدول اللي محصنة نفسها من سلطة القانون وبتتصرف براحتها من غير ما تتحمل أي عقوبة على أفعالها؟” (احتجاجا على وقوف أمريكا مع مصر ضد فرنسا وبريطانيا رغم أن مصر هي التي خرقت القانون الدولي أولاً).
لم يكن قرار التأميم العسكري هو فقط المخالف للقانون الدولي، ولكن الآثار المترتبة عليه أيضا من حيث أن سلطة وقرارات تشغيل المياة الدولية لا يجب أن تخضع لتصرف أية دولة منفردة، وذلك حتى لا تتحكم سياسة هذه الدولة في قرارات مزاجية غير متوقعة مثل منع سفن دولة ما من العبور مثلاً. وكانت مصر، لإثبات حسن النية والثقة في صحة موقفها ووفائها بالتزاماتها، كانت قد وعدت بقبول السلطان القضائي للمحكمة الدولية في التحكيم لتقرير مصير عقد القناة مع شركة قناة السويس العالمية (بعد التأميم وليس قبله كما نصحوا ناصر!)، ولكنها استمرت في التسويف بالذهاب للمحكمة (راجع سلوك: “آه إن شاء الله” بصوت المشير طنطاوي).
وبخصوص خضوع المياة الدولية للسياسة المصرية منفردة، دافعت مصر عن الحياد والاستقلالية في إدارة قناة السويس بتقديم ضمانة أن ميزانية الهيئة العامة لقناة السويس ميزانية مستقلة عن موازنة الحكومة المصرية واعتبرت هذا ضمانا كافيا لاستقلالية إدارة القناة عن سياسة الحكومة المصرية، ودلل الطرف المصري على ذلك بأن القناة تعمل بكفاءة، ولم يحدث أن تم منع أي سفن. لاحظ أن هذه نفس الحُجج التي تقدمها الحكومة المصرية اليوم لضمان أن المجلس القومي لحقوق الإنسان كيان مستقل عن الحكومة المصرية، حيث إن ميزانيته مستقلة، وعندما يقول لنا المجلس القومي إنه لا يوجد تعذيب في سجون مصر، فهذه من المفترض أن تكون عبارة حقيقة صادرة بشكل مستقل عن أي تدخل من الحكومة المصرية.
على أية حال، فقد أعضاء مجلس الأمن الأمل في جدية مصر لإنفاذ سلطة القانون المدني والدولي فوق القوة العسكرية، وأعطوها فرصة أخرى:
المندوب الاسترالي للسيد عمر لطفي مندوب مصر: “فيه مثل بيقول تسع أعشار الحق في الحيازة. وهو دا اللي مصر عملته وحطتنا أمام الأمر الواقع. والقناة على أرض مصرية ومجلس الأمن خلاص أمرنا باحترام السيادة الوطنية لمصر (بمعنى أنهم مستعدون لقبول ذلك رغما عنهم لأنها أوامر مجلس الأمن). بس موقف مصر حتى بعد ما أخد تسع أعشار الحق، بيحاول يقنعنا أن الميزانية المستقلة ضمانة كافية لاستقلالية السياسة. غريبة جدا أن مصر تكون أخدت حيازة القناة نفسها بقرار من جانب واحد، وأنشأت هيئة قناة السويس نفسها بقرار من جانب واحد، وفي نفس الوقت مطلوب أننا نصدق أن استقلالية ميزانية الهيئة يكون سببا في استقلالية إدارة القناة!”.
“السيد ممثل مصر كأنه بيعوم في البيسين بتاع بيتهم وبيقول لنا المياه حلوة تعالوا عوموا معايا. المياه حلوة له هو بس، إحنا مافيش أي ضمانات تحمينا في عبور مياه البيسين بتاعه”.
في النهاية وبعد كثير من التفاوض والمماطلة، أرغمت مصر على دفع الثمن الحقيقي لمحاولة الالتفاف على القانون كما يلي:
١. تعويضات بقيمة ٢٨٣ مليون جنيه للشركة[2] (بما يعادل ٨١٢ مليون دولار على سعر صرف ١ ج.م = ٢.٨٧ دولار تقريباً في ١٩٦٠).[3]
٢. تحمل الحكومة المصرية مسئولية الوفاء بالمعاشات الجارية والمستحقة لموظفي شركة قناة السويس العالمية الموجودين في مصر يوم التأميم حتى لو انتقلوا للعيش في الخارج بعدها.
٣. تحمل الحكومة المصرية ديون الشركة السابقة، التى يكون الدائنون فيها مقيمين فى مصر.
٤. قرض أول بقيمة 56 مليون دولار من البنك الدولي لتمويل أعمال ثانوية تشغيلية وفنية وشراء أجهزة وليست أعمال استثمارية (وهو من المعروف أنه استخدام سيء لأية قروض بشكل عام)
٥. قرض ثان بقيمة 50 مليون دولار أخرى في عام ١٩٧٤ أُغرِمَت عليه مصر نتيجة لتعقيدات التعثر في سداد القرض الأول (وأسباب أخرى متصلة لكنها خارج موضوع البحث نناقشها في مناسبة أخرى مثل حروب عبد الناصر مع اليمن وإسرائيل التي تسببت في شفط السيولة وإغلاق قناة السويس أصلا وتلفها وعطلها أثناء الحرب مع إسرائيل، وبالتالي عدم الاستفادة بالإصلاحات التي تمت بالقرض الأول). بجانب ١٢٦ مليون دولار قيمة قروض أخرى لمصر سلمت بعضها البعض من الكويت والسعودية والإمارات وقطر وبنوك أمريكية وأوروبية.
ففي النهاية، كان عدم الخضوع للقانون -اختياريا- سببا لنهاية أسوأ بكتير من شركة أجنبية تمول وتغطي تكاليفها، ولم يتبق في عقد الامتياز المبرم مع الحكومة المصرية فيها سوى ١٢ سنة وإن كانت شروطه مجحفة.
اخترنا مثال مفاوضات قناة السويس دون غيرها، لأنها كانت معركة سهلة لصالح مصر، وجميع الظروف لترجيح كفة التحكيم لصالح مصر كانت متوافرة، وحتى الخصوم استسلموا لشرعية الأمر الواقع كما أرادت واحتفظت بالقناة المؤممة. باختصار، الكورة كانت متقشرة لمصر وجاهزة لإحراز جون دبلوماسي مؤكد يحفظ لنا مصالحنا وامتيازاتنا. ولكن الحكومة المصرية اختارت أن تتكبد في ملف واحد فقط حوالي مليار دولار (هو ما استطعنا حصره)، زائد خدمات الدّين، على أنها تلتزم بأية شروط محاسبة أمام القانون الدولي والمحلي.
نحن لا نرغب أن تلتزم الحكومة المصرية بأية أخلاق، ولكننا سئمنا الحديث عن مؤامرات تدمير مصر لابتزاز المانحين والإفلات من شروط المحاسبة الوطنية على التمويل الأجنبي.
كم مائة عام أخرى من الفقر وكم حرب إقليمية سننجر إليها ثمنا للحصول على تمويل غير مشروط وتحصين المؤسسة العسكرية من آليات المحاسبة على الاعتداءات الجنسية للمدنيين؟ يا ألف مرحب بمليارات ومليارات من الدولارات للجيش المصري والحكومة المصرية، ولكن لكل شىء مقابل، كما يقولون في الغرب: free stuff are the most expensive أو كما تعلمنا معناها المقابل في وادينا الطيب: بصل بخمسة وخمسة ببصل.
[1] http://web.archive.org/web/20141220100511/http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=221785&eid=306
[2] http://web.archive.org/web/20141220100511/http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=221785&eid=306
[3] http://fxtop.com/en/historical-exchange-rates.php?A=1&C1=EGP&C2=USD&MA=1&DD1=20&MM1=05&YYYY1=1958&B=1&P=&I=1&DD2=31&MM2=05&YYYY2=1958&btnOK=Go%21